في حضن الربض الجنوبي تتوارى دار بن عبد الله وكأنها خجلى من الإهمال الذي حل بها على مدى السنوات الماضية فلم يتبق من جمالها إلا شذرات.
كانت الدار تعج بالحياة وكانت فيها أسرار وحكايات وقصص بديعة وكان ثمة قادة عسكريون وأعيان وتجار يجوبون المكان لكن القصر يغرق الآن في صمت حزين لا تقطعه إلا جلبة جيرانه وزيارات الفضوليين أمثالنا.
عرف هذا القصر القديم المرتب معلما تاريخيا منذ 1922 بدار بن عبد الله لكنه في الأصل ينتسب إلى سليمان كاهية المملوك الجورجي الذي تربي في حضن الحسينيين وعاش وفيا لهم فوثقوه وصاهروه وأطمأنوا إليه واستمر في خدمتهم إلى أن وافته المنية في الخامس عشر من رمضان الموافق لـ 4 ديسمبر 1838.
يعدّد ابن أبي الضياف مآثر هذا القائد العسكري فيقول "أصل هذا الشهم من بلاد القرج ونشأ في خدمة الباي أبي محمد حمودة باشا ولازمه ملازمة الظل وهو من الناس الذين ألقوا بأنفسهم إلى إفتكاكه من فتكة بعض مماليكه (حاولوا ذبح الباي) ...وتدرج في الخدمة إلى أن صار آغة وجق باجة ثم قدمه (الباي) كاهية للسفر بالمحال (الجباية) في شتاء 1807 ...وصاهره الباشا أبو الثناء محمود باي ".
قصة سليمان كاهية مع محمود باي حافلة بالإثارة والعبر كما تخبر بذلك مدونات مؤرخي هذه الحقبة فالباي محمود لم يصعد إلى كرسي الملك إلا بعد أن قتل عثمان باي مستردا ما يعتبره حقا شرعيا له والغريب أن الكاهية سليمان ظل حتى آخر لحظة مدافعا شرسا عن الباي المريض ثم القتيل رميا بالرصاص,
ويذكر ابن أبي الضياف أن الباي الجديد أبو الثناء محمود باي ورغم ما حصل عامل سليمان كاهية معاملة خاصة ، قائلا "ولما لم يقدم سليمان كاهية من بيته (لمبايعته) بعث له محمود باي بسبحته وكتاب دلائل الخيرات زيادة في التوثق لتأمينه فأتاه وقال له : يا سيدي قد فعلت ما يجب عليّ ولو لم يمت سيدي أقاتل عنه حتى أموت دونه كما أقاتل عنك...وزوّجه (الباي) بنته ليلتئذ" وكان الزواج في اليوم الثاني للبيعة أي يوم 22 ديسمبر 1814.
سوف يلعب سليمان كاهيا دورا رئيسيا في إنقاذ حسين ابن الباي محمود من عسكر الترك الذين كمنوا لقتله في سياق تمردهم على الباي في غرة ماي 1816 ، مازاد من إعلاء مكانة سليمان كاهية الذي ساهم أيضا في إخماد التمرد ليصبح من الشخصيات المهمة المحيطة بالباي بعد أن منحه هذا الأخير رتبة وزير للحرب.
هذه جوانب من شخصية سليمان كاهية ، فماذا عن القصر الذي عاش فيه ومارس حياته الاجتماعية ؟ في الحقيقة التاريخ الدقيق لبناء القصر المسمى بدار بن عبد الله ليس معروفا وكل ما نعلم عنه هو ما ذكره الفرنسي جاك ريفو استنادا لبعض وثائق الملكية من أن القصر كان الى نهاية القرن الثامن عشر (1796) على ملك أحد الوجهاء وهو الحاج محمّد بن علي البرادعي القسنطيني قبل أن تنتقل ملكيته سنة (1801) الى سليمان كاهية.
ما يعرف أيضا أن الربض الجنوبي كان خلال تلك الفترة من بداية القرن التاسع عشر يشهد توسعا عمرانيا كبيرا حيث بنيت فيه قصور لأعيان الجند والاندلسيين والتجار المخازنية وشيد فيه الجامع الجديد وعدة كتاتيب وكانت البساتين لا تزال موجودة وتزين الكثير من هذه القصور. سوف يتمركز سليمان كاهية في المكان وسيكون شراء القصر ضمن مسعاه المتواصل لتوسيع املاكه العقارية التي كانت قائمة بالمدينة العتيقة وبضاحيتي منوبة والمرسى.
بعد وفاة سليمان كاهية عرض القصر في مزاد علني فاشتراه محمد الطاھر بن صالح بن عبد الله وهو تاجر حرير ثري ومكث فيه الى 1899 ثم اشترى الدار الرسام الفرنسي ألبير أوبلي سنة 1905 وفي 1941 أصبح القصر مقرا لإدارة التعليم والفنون الجميلة والتي حوّلته إلى ديوان الفنون التونسية.
في 1964، تم تحويل دار بن عبد الله إلى مركز وطني للفنون والتقاليد الشعبية وهو قسم تابع للمعهد الوطني للآثار والفنون وفي 1978 أصبحت "دار بن عبد الله"، متحفاً جهوياً الفنون والتقاليد الشعبية قبل أن يغلق هذا الفضاء نهائيا وتنقل إدارة المتحف إلى دار عثمان الكائنة في الصباغين.
يؤكد جاك ريفو أن النهج المؤدي إلى قصر بن عبد الله أو الدريبة الخاصة بهذا الفضاء السكني والمطلة على نهج سيدي قاسم كانت تغلق ببوابة حديدية سميكة وأن كل مكونات هذا العقار المشتمل على عدة أجزاء تشكلت من خلال شراء الطاهر بن عبد الله على الأرجح لعقارين آخرين هما دار العجيمي ودار المقراني لكن تظل دار كاهية الجوهرة ضمن هذه الملكية الشاسعة والقصر البديع الفخم الذي جمع بين تعبيرات هندسية وعمرانية بديعة ومتنوعة ولكنه ويا للأسف ترك فريسة للنسيان والغبار والتداعي وليت المسؤولين سعوا إلى إنقاذ هذا المعلم التاريخي وتثمينه وجعله مثلا متحفا للفن الإسلامي ليتكامل مع متحف رقادة فعديد المدن التونسية ومخازن الآثار تحفل بالقطع واللقى الأثرية التي يمكن عرضها في هذا القصر الواقع على بعد مئات الأمتار من قلب المدينة العتيقة وجامع الزيتونة المعمور.