قصة جرجيس histoire de zarzis (2) عكارة ...الأشراف


كنوزنا – ياسين بن سعد

تطرقنا في مقالنا السابق إلى تاريخ جرجيس خلال الفترات التاريخية القديمة وخصوصا الفترتان البونية والرومانية وفيهما كانت زيتا zita أو جرجيس مدينة عريقة ومصرفا مهما comptoir تمارس التجارة مع الموانئ المتوسطية ثم أضحت منذ القرن الثاني تحظى بصلاحيات تشريعية وإدارية باعتبارها بلدية رومانية municipe كما أشرنا إلى أهم المواقع والاكتشافات الأثرية التي يرجع أغلبها إلى الفترتين المذكورتين لكن جرجيس القديمة ليست فينيقية ورومانية فقط كما تحدثت عنها وثائق سترابون وبتولومي وتيت ليف وبروكوب وغيرهم فهي كانت موجودة أيضا في كتب الرحّالة العرب بأسماء متعددة وخصوصا خلال العصر الوسيط و لعل من الأنسب القول أن هؤلاء الرحّالة قد ذكروا عدة أماكن شكلت شبه جزيرة جرجيس بكلّيتها شمالا وجنوبا ، وشرقا وغربا وفي هذا السياق يتحدث الادريسي في كتابه "نزهة المشتاق "، عن جزيرة "زيزوا" أو زيتا خلال القرن الثاني عشر فيقول "وهي صغيرة جدا وفيها نخل وكروم وبين جزيرة زيزوا والبر نحو ميل ويقابلها قصر بني خطاب وهذه الجزيرة عامرة بأهلها ...مذهبهم الوهبية وكذلك جميع القصور والحصون التي تلي هاتين الجزيرتين (جربة وجرجيس) يتمذهبون بمثل ذلك".

من الواضح أن الادريسي يقصد بالوهبية المذهب الذي يعرف به أهل جربة والجنوب وهو الإباضية التي يعود انتشارها بالجزيرة والمنطقة إلى أوائل القرن الثاني للهجرة بقي أن هذا الجغرافي لا يتردد في وسم أهل زيزوا بالمغالاة كغيرهم من فرق الخوارج التي ينسبون إليها وإن كانت الإباضية قد تغيرت كثيرا بمرور الزمن.

بعد أن يفصل في المذهب ينتقل الإدريسي إلى باقي المواقع في جرجيس فيقول "ومن قصر جرجيس إلى قصر بني خطاب خمسة وعشرون ميلا وقصر بني خطاب هو على آخر سباخ الكلاب من جهة المغرب ويقابل قصر بني خطاب في البحر اسقالة جزيرة زيزوا...ومن قصر بني خطاب إلى قصر شماخ خمسة وعشرون ميلا وبينهما جون صغير ويسمى جون صلب الحمار ...ومن قصر شماخ إلى قصر صالح عشرة أميال".

تحيل تسمية القصر إلى الوظيفة العسكرية التي لعبتها هذه المواقع سواء خلال الفترة الأغلبية أو في الفترة الحفصية وفي أطروحته عن الرباطات البحرية يبين ناجي جلول ذلك وهو يتحدث عن أصول العكارة فيقول "وعكّارة نسبة إلى الشيخ الصيّاح العكاري الذي رابط بحصونها في أواخر العهد الحفصي مما يؤكد أن بعض القصور التي عدها الإدريسي كانت بدورها مراكز مرابطة وواصلت القيام بهذا الدور في العهد الحفصي ...أما زيزو التي ذكرها مؤلفو العصر الوسيط فهي مدينة زيطا الرومانية ...وكانت تتصل بالساحل عن طريق ميناء سيدي بوتفاحة (مرسى التفاح في القديم) ومرسى هنشير الصقالة (صقالة زيزو في العصر الوسيط).

كما وقع الكشف في هذه المنطقة عن تجمعات سكنية رومانية بهنشير الكلخ التي كانت تستعمل في القديم كمركز للحمام الزاجل وهي وظيفة تواصلت مع الرباطات الإسلامية".

سوف تصبح جرجيس منذ العصر الوسيط كما يتضح مرتبطة بعكارة وقد ذهبت المصادر الفرنسية خصوصا إلى إدماج عكارة ضمن  فروع  قبيلة ورغمة البربرية العريقة وصارت المنطقة الجنوبية الشرقية كما يقول سالم لبيض تشكل حسب هذه المصادر "إتحادا قبليا نشأ في المنطقة الجنوبية الشرقية جنوب وادي الزاس ...وما أصبح متعارفا عليه ... هو تسمية المنطقة بكونفدرالية ورغمة ...ومنهم من اعتبرها دولة ورغمة ".

فهل نفهم من ذلك أن أصل عكارة هو ورغمي بربري أم أنها كما يقول كثيرون قبيلة عربية أصيلة ؟

في الحقيقة لم يكن هناك اتفاق بين الباحثين في هذه المسألة تحديدا فالرويات تعددت وقسم كبير منها شفوي ولم يستند إلى وثائق مكتوبة لكن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن نسب عكارة من الأدارسة الذين حكموا بالمغرب الأقصى وهؤلاء من نسل إدريس بن عبد الله الذي نجا مع شقيقه يحيى من معركة فخ بين العلويين والعباسيين وهرب رفقة مولاه راشد قاصدا بلاد إفريقية.

يذكر سعدون عباس نصر الله في كتابه عن دولة الأدارسة أن المولى راشد قد ألبس إدريس الأول ثوبا ممزقا وعامله معاملة الخدم حتى لا يلفت إليه أنظار عسس العباسيين ثم سار به مع حجّاج مصر وافريقية إلى ميناء ينبع ومنه إلى بلاد النوبة فمصر التي هرّبه منها عامل البريد العباسي المسمى واضح إلى مدينة القيروان ومنها توجه تلقاء تلمسان وبعدها إلى طنجة ليستقر به المقام أخيرا في ناحية وليلي بالمغرب سنة 788 م وتتم مبايعته إماما للقبائل البربرية المستقرة بالمنطقة وتنشأ بذلك دولة الأدارسة.   

يوضح الدكتور سالم لبيض في كتابه "عكارة في سوسيولوجيا القبيلة المغاربية" والذي يشكل امتدادا لأطروحته حول جرجيس أنه قد تمكن من حسم مسألة الإنتماء قائلا "عن طريق البحث و التعمق والدراسات والذهاب إلى الأرشيفات في تونس وفي فرنسا وفي المغرب وفي ليبيا تبين أن هذه القبيلة (عكارة) لها إنتماء مغاربي وإنتماء عربي شامل …وليست موجودة في جرجيس فقط بل لها موطن كبير في المغرب الأقصى وفي الرباط وفي فاس وفي مراكش وهذا يؤكد فرضية قديمة أن عكارة هي سليلة "سيدي الصيّاح العكاري" وهي قبيلة قادمة من الصحراء الغربية ووادي الذهب وجدّ هذه القبيلة له انتماء شريف وينتمي إلى سلالة الأشراف وكذلك الامتداد العكاري موجود في ليبيا وفي الشام وفي فلسطين و كذلك في مصر وذلك أصبح أمرا مؤكدا".

يضيف الدكتور سالم لبيض " تزوج (إدريس الأكبر) من كنزة بنت عبد الحميد الأربي سلطان بلاد البربر الذي سلمه الإمارة بعد أن عرف أنه من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم فأنجب إبنه إدريس الأصغر الذي تنحدر منه سلالة سيدي الصياح والذي له أخوان وهما سيدي أحمد لصيفر وسيدي المبروك بوزيد كما أن للولي سيدي الصياح خمسة أبناء وهم سعيد ومحمد وعيسى وتميم والمرابط سيدي كمون الموجود بالكحالية وبالنسبة إلى مصطلح عكارة فهو مصطلح قديم فقد ورد في وثيقة شجرة ورد العيساوية إسم شخص يدعى منصور ابن عبد الرحمان العكاري المغربي وترجع هذه الوثيقة إلى 1163 هـ وهو ما يدل على أن عكارة هي التسمية المصاحبة لظهور أبناء الصياح بمنطقة جرجيس".

تؤكد دراسة الدكتور كمال العروسي حول الخارطة القبلية في الجنوب الشرقي التونسي أيضا نسبة الصياح العكاري إلى المغرب الأقصى إذ يقول أن سيدي مخلوف المهبولي وسيدي الصياح العكرمي أو العكاري حطا الرحال بالمنطقة الساحلية بواحة جرجيس قادمين من الساقية الحمراء الواقعة بالصحراء الغربية وفي مرحلة موالية اتجه سيدي مخلوف نحو منطقة القرين المعروفة الآن باسمه. هكذا نفهم أن نسب عكارة عربي حجازي ولم يتبق إلا تفصيل تركيبة عروش عكارة التي صارت تعرف بها شبه جزيرة جرجيس منذ حلول الجد بالمنطقة في أواخر القرن السادس عشر والحقيقة أن سالم لبيض يخبرنا بذلك منذ دراسته الأولى وقبل أن يصدر كتابه الضخم الذي أنهى الجدل حول نسبة القبيلة فهو يوضح أن العروش التي تنحدر من سلالة سيدي الصياح هي أولاد سعيد وأولاد محمد وأولاد بوعلي أما العروش التي تنحدر من مرافقي سيدي الصياح وهما سيدي عبد الدايم وسيدي خليف أي الزاوية وأولاد عبد الدايم ، الخلايفة وأما عروش المؤانسة فقد جاؤوا إلى شبه الجزيرة مع بقية عروش عكارة حيث اندمجوا في نسيجهم القبلي وأصبحوا جزءا منهم".

في جذور حكاية إستقرار سيدي الصياح العكاري بشبه جزيرة جرجيس إشارات إلى العلاقة الملتبسة مع قبيلة النوايل التي كانت متمركزة في منطقة شماخ والتي دفعت سيدي مخلوف إلى المغادرة نحو القرين وثمة أيضا بعض الفضول في ما يتعلق بتسمية شماخ فقد وجدنا في الكتاب عن دولة الأدارسة أن هارون الرشيد القلق من إنشاء هذه الدولة الخارجة عن سلطة العباسيين وبناء على نصيحة من وزيره يحي البرمكي أرسل شخصا يدعى سليمان بن جرير ويكنى بالشماخ أرسله إلى المغرب لاغتيال إدريس وهو ما نجح فيه ثم فر الشماخ قاصدا المشرق فلحقه راشد مولى ادريس وقطع يده وأثخنه جراحا لكن الشماخ أفلت منه في نهاية المطاف.

في مقالنا المقبل والختامي سوف نهتم بجوانب أخرى تهم مراحل متأخرة من تاريخ جرجيس. 

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال