كنوزنا - ياسين بن سعد
تطرقنا في
المقالين السابقين إلى جامع القصبة أو جامع الموحدين ثم إلى ميضاة السلطان وكان
المعلم الأول في حالة إهمال تام قبل أن يتم ترميمه وإعادة افتتاحه في جويلية
الماضي فيما تتواصل أعمال الترميم بالميضاة تحت إشراف محافظة تونس التابعة للمعهد
الوطني للتراث وقد أكد المعهد أنه "وقع انجاز ترميمات كبيرة
بالخصوص على مستوى الأسقف الخشبية " ، أما في مقالنا هذا فسنتعرض إلى معلم
آخر مهم هو قشلة العطارين وهي إحدى الثكنات العسكرية التي بناها حمودة باشا
الحسيني داخل مدينة تونس.
وبالطبع فإنه لا يمكن الحديث عن مآثر هذا الباي وعن المعلم المتمثل بالقشلة
دون التطرق إلى شخصية الباي نفسه فهو أحد أهم البايات الذين حكموا تونس خلال
الحقبة العثمانية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق ويذكر ابن أبي الضياف أن مولد حمودة باشا كان في
8 ديسمبر 1759 م "وأمه جارية من أعلاج القرج (جيورجية) إسمها محبوبة تزوج بها
أبوه في الجزائر (غيّر إسمها) ولما قدم مع أخيه لتونس واطمأنت له الدار بعث أبا
عبد الله محمد القسطلي إلى الجزائر في البحر وأتى له بها وببقية حرمه".
بويع حمودة باشا على حكم تونس مرتين الأولى كانت في حياة والده المريض (9
فيفري 1777 م) وهي أقرب ما تكون إلى
إدارة بالنيابة لشؤون البلاد فيما البيعة الثانية والتي تمت بعد وفاة علي باي فكانت
في 31 ماي 1782 م وقد تولى بمقتضاها إدارة المملكة رسميا ويصف عدد من المستكشفين
الأوربيين هذا الباي بدقة وإسهاب فيقولون أنه كان طويل القامة متناسب الأعضاء جميل
الطلعة حسنها ...وأنه بالإمكان اعتباره واحدا من أجمل رجال البلاد التونسية فيما
يشير تقرير قنصلي فرنسي إلى أنه "الأمير الفريد بين أمراء المسلمين قاطبة فهو
يتمتع بثقافة مرموقة مكنته من فهم مصالح القوى والدول الغربية بأوروبا وبالتالي
الإستفادة منها إلى الحد الأقصى".
وأما ابن أبي الضياف فيمكن القول أنه قد كال لهذا الباي من المديح ما لم
ينه غيره من البايات فهو أي الباي "كان غيورا على الوطن محبا لأهله عارفا
بمنازلهم ، متألفا لهم ، يغلب عقله هواه ، لا يأنف من المراجعة ، يقيل العثرة
ويعفو عن الزلة ، جمّاعا للمال متلافا له في أوقات الحاجة ، ...مولعا باستكثار
الجند من الترك والالتحام بهم والتودد إليهم ".
لا شك أن التكوين العسكري الذي تلقاه الباي منذ ريعان شبابه حيث قاد محلّة
الجباية ولم يكن عمره يتجاوز 20 سنة إضافة إلى الاضطرابات التي وجد نفسه في
مواجهتها ، من العناصر التي ساهمت في تشكيل هذا الولع الكبير بشؤون الجند لكن كان ثمة
قطعا ما هو أهم بكثير وهو الأطماع المستمرة لعسكر الجزائر في خيرات البلاد وتدخلهم
السافر في شؤونها الداخلية وهذا العنصر سيلقي بظلاله على عهد حمودة باشا الحسيني.
سوف يكرس الباي جزءا كبيرا من وقته وجهده ومن موارد الدولة التونسية للقيام
بإصلاحات وورشات عسكرية ضخمة ولعل أهم الإشغال التي بادر بها إستعدادا لمواجهة
سنجق الجزائر هي تقوية الأسوار وتعزيز بنيانها وقد ترافق ذلك مع تحصينات إضافية
تمثلت في إنشاء مجموعة من الأبراج وكان الباي
"يأتي غالب أيامه بنفسه ليرى العملة في بناء السور والأبراج مبالغة في الحث
على العمل". وقد بلغ عدد الأبراج كما
يشير إلى ذلك موقع التراث والتاريخ العسكري التابع لوزارة الدفاع " 12 عشرة
برجا، هي كما ورد في نص وقفيتها : برج باب الخضراء الكبير، والبرج المعروف ببرج
يوسف صاحب الطابع، وبرج الشيخ سيدي يحيى السليماني، وبرج باب سيدي عبد السلام،
وبرج باب أبي سعدون، وبرج باب سيدي قاسم الجليزي، وبرج عنابة، وبرج سيدي علي
القرجاني، وبرج المصلى المعروف بجامع السلطان، وبرج باب الفلّة، وبرج باب علاوة وبرج باب البحر. وهذه الأبراج والحصون بها
مخازن المؤن وصهريج الماء أو البئر، كما تحتوي جميعها على طبخانات مجهزة
بالمدافع".
لم يكتف حمودة باشا بتقوية الدفاعات المحيطة بمدينة تونس فقد حصن أيضا ميناءي
حلق الوادي وغار الملح وقاد الأشغال مهندسون وخبراء أوروبيون في بداية القرن
التاسع عشر بالاستعانة بمعدات ومراكب تم جلبها من فرنسا ويذكر رشاد الإمام في
أطروحته عن سياسة حمودة باشا أنه تم القيام "بإنشاءات عسكرية دفاعية هامة جدا
وحديثة أهمها تحصين مدخل البوغاز بتثبيت سياج من أوتاد ضخمة على جانبي القنال ثم
رمي بمتاريس قوية من الحجارة في أماكن معينة من مدخل القنال لا يعرفها إلا
المسؤولون المختصون بحلق الوادي. ويصف الأب كاروني (رجل دين ورحالة فرنسي) أهمية
تلك الإنشاءات وحصانتها سنة 1804 بقوله أنه منذ ذلك اليوم أصبح أي معتد مهما بلغت
قوته لا يستطيع أن يقتحم تلك الحواجز ...ومن يومئذ أصبحت عاصمة البلاد التونسية
تستطيع أن تنام ملء جفونها ".
لم يتوقف المجهود الحربي لحمودة باشا على أسوار المدينة وما وجاورها فخلف
هذه الأسوار بنى الباي 5 قشلات (ثكنات) لسكنى
عسكر الترك ، وهي قشلة البشامقيّة وتعد الآن جزءا من مستشفى عزيزة عثمانة وتوجد
مقابل جامع يوسف داي ، وقشلة العطارين وتوجد في السوق الذي تحمل إسمه وقشلة
الزنايديّة (مقر محافظة تونس للتراث) وتوجد
بنهج جامع الزيتونة ، وقشلة سوق الوزر على مقربة من العطارين وقشلة سيدي عامر
وتوجد بساحة سيدي علي عزوز ووكّل على بناء كل قشلة واحدا من أعيان البلاد وقد ناهز
سكان هذه القشلات من العسكر كما تذكر المصادر التاريخية نحو 11 ألفا وكان لحمودة
باشا بيت في ثكنة البشامقيّة بالقصبة.
تعتبر قشلة العطارين كما يتضح جزءا من البنية العسكرية المتينة التي بناها
باي تونس القوي والمحبوب حمودة باشا الحسيني لكن هذا المعلم الجميل والعريق الذي
يعود إنشاؤه إلى 1814 م ظل لسنوات طويلة مغلقا وشبه مهمل قبل أن تنطلق أشغال
ترميمه مؤخرا وتقطع شوطا لا بأس به .
كانت القشلة خلال فترة الحماية سجنا فمقرا لإدارة الكتب ثم إدارة للآثار
والفنون الى غاية 1958 تاريخ تحويلها الى "دار الكتب الوطنية" وقد بقي
هذا الفضاء حتى 2005 مقصد العديد من
الباحثين والدارسين بعد صدور أمر رئاسي مكّن المكتبة من جمع نفائس المخطوطات
العربية والإسلامية من المكتبات التونسية العريقة والزوايا والمدارس.
لا تختلف هندسة هذا الفضاء التاريخي عن غيره من القشلات حيث يبدأ بمدخل
تليه ساحة مستطيلة وحولها على مساحة طابقين أرضي وعلوي بيوت للضباط والجنود
الانكشاريين ويمكن قراءة أسماء عدد من هؤلاء أعلى البيوت المتداخلة أحيانا علما
بأن القشلة احتضنت مؤخرا مكتبة الديوان التي كانت تخضع للترميم وننتظر من ناحيتنا
أن يتم الإعلان عن موعد إستغلال القشلة حسب البرنامج الذي أعلن عنه سابقا.
في مقالنا المقبل سوف نتهتم بفضاء الديوان وهو من أقدم المعالم التاريخية
بمدينة تونس وقد انتهت أعمال ترميمه من قبل محافظة تونس.