قصور ومدارس وفنادق...معالم المدينة بين الإنقاذ والضياع (4) الديوان

 



مازالت المدينة عامرة بمعالمها البهية ...عابقة بعطر التاريخ رغم تكالب الطامعين ومازال في الجراب ما يمكن قوله عنها وعن أسرارها ودروبها وشخصياتها.

ولئن تعرضت مدينة تونس خلال العقود الأخيرة إلى الكثير من الأضرار والسرقات والاعتداءات فإن عجلة الإصلاح لم تبدأ بالدوران إلا مؤخرا حيث تم إنقاذ جامع القصبة من الإهمال الذي تواصل لسنوات وبدأ ترميم ميضاة السلطان وقشلة العطارين فيما استكمل ترميم معلم الديوان الذي يعود إلى الحقبة العثمانية.

لا شك أن تسمية الديوان أو "دار الديوان" إنما تحيل إلى ديوان الجند التركي الذي كان يتحكم في الإيالة التونسية الخاضعة منذ نهاية القرن السادس عشر لسلطة الدولة العثمانية وقد أوضح ابن أبي دينار التنظيم العسكري الذي أقره سنان باشا بعد طرد الإسبان من تونس فقال"ولما تمكن قدم العسكر العثماني في تونس...ورتب الوزير سنان باشا قوانين صارت من بعده ثابتة الرسوم ...رجع إلى دار سلطانه بالديار الرومية وخلف هذا العسكر المعبر عنه بالينشرية فضبطوا ملك تونس ودعمت قواعدهم واستمرت بأيديهم خلفا عن سلف والزمان مساعدهم وأصلحوا ما فسد من بنيان قلعتها وسكنوها وجعلوا دار الخلافة بها وهي المعبر عنها بدار الباشا وكذلك الديوان كان يرسم بها وجعلوا قوانين يتميزون بها وحذوا في أول أمرهم في الأحكام حذو ديوان الجزائر، والمتصرف في أحكام البلد باشا الوقت ونظر العسكر إلى آغاهم ".

يفصّل مؤيد المناري في دراسته المتميزة عن مؤسسة الديوان هذه التراتبية العسكرية قائلا أنه أي الديوان "هو صورة مصغّرة من "الآغه كابسي"، الديوان العثماني بمركز الخلافة إستانبول لكن الطريقة السردية التي يقدم بها ابن أبي دينار المعطيات المتعلقة بالديوان تنقسم إلى فترتين زمنيتين يفصل بينهما حدث انقلاب صغار الضباط على الأوده باشية والبلوكباشية، سنة 1591، والذي جدّ في صلب الإدارة العليا لديوان الجند.

وتأكيدا لكلام ابن أبي دينار فقد وضع سنان باشا ديوان إيالة تونس على نفس شاكلة ديوان الجزائر. فبالرجوع لتراتبية ضباط العسكر العثماني بالديوان الجزائري نجد نفس الأوليغارشية العسكرية المتكونة من بكلرباي أو باشا ينتخب لمدة 3 سنوات، وآغة إنكشارية يترأس الديوان، ومساعده الكاهية ثم أطه باشية ثم بلوكباشي وأوده باشي ووكيل الخرج المسؤول على النشاط البحري وأعمال الترسانة والسلاح ثم شاوش، وفي آخر السلم يأتي اليولداش أو الإنكشاري. كما تذكر المصادر التاريخية عدد الإنكشارية التي استجلبت لحراسة وصيانة قلاع الجزائر وعددها 6000 إنكشاري من كبار الضباط الأتراك سنة 1517 م، عدد لا يبعد كثيرا عن الجنود التي ركزها سنان باشا بتونس وعددها 4000 عسكري من كبار الضباط".

يوضح ابن أبي دينار ملابسات هذا الانقلاب العسكري على كبار الضباط قائلا أن الأتراك جعلوا "التحكم في الديوان والعسكر لجماعة البلوكباشية ولكن ساروا في أحكامهم بعنف على من دونهم في العسكر ووقع منهم الجور...فسيمت نفوس العسكر وأضمروا لهم الشر وتعاقدوا بينهم على الفتك بهم في يوم معلوم وهو يوم جمعة (29 أكتوبر 1590 م )...وكان وكيل الخرج واحدا منهم اسمه طبال رجب فساعدهم على ما أرادوه ووعدهم أنه لا يحضر ذلك اليوم لتكون البيت التي فيها السلاح مغلقة بحيث لا يجدون سلاحا يذبون به عن أنفسهم .

فلما كان اليوم الذي تواعدوا فيه واجتمع الديوان دخل عليهم العسكر على حين غفلة ووضعوا السيف في من وجدوه هناك ولم يمنع الا من لم يحضر ذلك اليوم وتبعوهم في منازلهم وقتلوا منهم من ظفروا به وممّن ذبح في ذلك اليوم الآغا والأوضباشية والبلوكباشية".

في الحقيقة كانت أسباب الانقلاب الذي شهده الديوان أعمق بكثير مما ذكره كتاب المؤنس وقد تمكن مؤيد المناري بالاطلاع على الوثائق العثمانية من إظهارها وإبرازها وهو هنا يخبرنا عنها قائلا "تذكر إحدى وثائق المهمة دفتري المؤرخة بسنة 1579 م، أن طائفة أفراد العسكر بإيالة تونس استحدثوا أوضاعا مغايرة للقانون وبدعا مخالفة كعدم تسليمهم موارد بيت المال لخزينة الميري واقتسام الأموال بينهم، وتشغيلهم للأطفال الصغار غير القادرين على الخدمة العسكرية وتخصيص مرتبات لهم وجعلوا من بينهم حرسا خاصا يعرف بالـ"صولاق". وتناهى لأسماع السلطنة العلية أن هذه الطائفة من العسكر أخذوا الخدم وجعلوهم في رتبة رؤساء البلوك باشي، ونصبوا من يريدون آغة بمرتب أربعين آقجة ، ودون أن يمر وقت طويل يستبدلونه بآغه غيره، كما استمعوا للمشتكين من الأهالي بأنفسهم عوض القاضي وردوا عليهم حسب أهوائهم مخالفين أحكام الشرع.

وتدخلوا لتعيين آغة الإنكشارية ورفعوا من مرتب فرسان البلوك باشية من 5 أقجة إلى 15 وبلوك المشاة من 3 أقجة إلى 20 أقجة، واكتسبوا القوة والاعتبار وأصبحوا لا يستمعون لكلمة البكلربكي وظلموا الرعايا. وتذكر نفس الوثيقة أنه لحل هذه الأزمة المتمثلة في سطوة كبار ضباط ديوان جند الإنكشارية أصدر الديوان الهمايوني أمرا يقتضي باستبدال آغة الديوان بآغة جديد يدعى حسين آغه تم اختياره من بين أعيان السلطنة العلية. وفي وثيقة أخرى من وثائق المهمة دفتري والمرسلة إلى بكلربكي تونس وآغة الانكشارية سنة 1587 م، تم ابلاغ السلطنة العليّة بمجموعة كبيرة من المفسدين من طائفة البلوكباشية والأوده باشية الذين قاموا بإثارة الاضطرابات وتحريض الأشقياء للتدخل في الشؤون الخاصة بالبكلرباي والقضاة ووكلاء الخرج، وتسببوا في هدر مال الميري ولا يكفلوا حق الفقراء ويثيروا الفساد والظلم، ما جعل الباب العالي يعجل بإرسال مكتوب لبكلرباي تونس يطلب منه التنبيه على جماعة البلكباشية والأوده باشية بعدم التدخل في الشؤون الخاصة بالولاة والقضاء ووكلاء الخرج صلب الديوان وعدم التعدي على صغار الجند والفقراء من الأهالي".

كرس هذا التمرد العسكري سيطرة الدايات (الداي معناه خال بالتركية) على الديوان وفي هذا يقول حسن حسني عبد الوهاب " فعقد حينئذ الباشا (ممثل السلطان) وكبراء العسكر مجلسا أجمع رأيهم فيه على تقديم أحد الدايات للنظر في شؤون الانكشارية وحفظ مدينة تونس" لكن استقرار الاوضاع للدايات لن يحصل فعليا الا بواسطة عثمان داي (1598 م) الذي انفرد بكامل السلطة تاركا للباشا مهام شرفية وقد تولى هذا الداي صياغة نظام للحكم أسماه الميزان معززا في الآن نفسه القوة البحرية والابراج العسكرية فانتعشت القرصنة والتجارة كما استقبل المسلمين المهجرين من الاندلس "وأذن لهم أن يعمروا حيث شاؤوا" فاستفادت الايالة من خبراتهم في الفلاحة والحرف والعمارة والعلوم وقد استمرت سيطرة الدايات الى أن جاء المراديون الذين نجحوا خلال فترة حكم حمودة باشا في انتزاع السلطة بشكل كلي وانهاء نفوذ الدايات.

على باب الديوان الكائن في النهج الذي يحمل الإسم نفسه بالمدينة العتيقة ، توجد نقيشة بيضاء تؤكد أن هذا الفضاء يعود إلى القرن السادس عشر أي إلى بداية استقرار الأتراك بتونس علما بأن هذا البيت العتيق الذي شهد اصلاحات في فترات متباعدة لم يكن فقط مكانا لاجتماع العسكريين الانكشاريين فهو قد كانت تنظر فيه شؤون العامة وتصدر منه الأحكام الشرعية.

 تحول الديوان في منتصف القرن التاسع عشر الى مقر للمحكمة الشرعية التي "ضمت في أرجائها 12 عضوا من كبار العلماء والفقهاء من شيوخ المذهبين : القاضي الحنفي والقاضي المالكي والبقية مفتون من المذهبين بالتساوي بما في ذلك شيخ الإسلام الحنفي وكبير أهل الشورى المالكي. وقد أشرف محمد باي  على حفل إفتتاح "دار الشريعة" بمقرها الرسمي بديوان الجند بعد أن تم إصلاحه وتلقى أهل المجلس الشرعي برئاسة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع".

تؤكد النقيشة الموجودة في سقيفة هذا المعلم التاريخي ذلك فهي تتضمن أبياتا شعرية تشير الى " أن المشير محمد باشا قد قام سوق الشرع في حضرته ...وقد أسماه اذ سمّاه دار شريعة" لكن (الديوان) سوف يتحول خلال السنوات الأخيرة الى مكتبة عمومية تابعة لوزارة الثقافة تضم كتبا ثمينة ونادرة لا توجد في غيرها من المكتبات.

في مدخل فضاء الديوان يوجد سجن تابع للمحكمة الشرعية وأما داخل الفناء فثمة  زاوية أحد الموالي التابعين للحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري المرشد الروحي للمليشيا الانكشارية Bektaşîlik  وهؤلاء كما يقول المناري "هم فئة الجنود المحبين الصادقين لشيوخ الزاوية البكتاشية والذين تلقوا آداب الطريقة وعلوم التربية الاسلامية وذلك منذ التحاقهم بوجق الجنود الإنكشارية (عجمي أوغلرى) عن طريق نظام التجنيد الذي يعرف باسم "الدفشيرما". وقد كانت الزاويا وخاصة زاوية الحاجي بكتاش هي التي احتضنتهم وأمنّت لهم تربية معنويّة وإحاطة كاملة ولقنتهم أصول وعلم الكلام والأدب والخلق... ومنذ أواخر القرن السادس عشر تمت مأسسة الطريقة البكتاشية واعتبرت الطريقة الرسميّة للجند العثماني، فقد تم إدراج الدراويش البكتاشيين في قشلة العسكر الإنكشاري بإستانبول وأوكلت إليهم مهام الاعتناء بمساجد القشلة، أين يقوم كبار شيوخهم بالدعاء لسلامة الجيش العثماني واستشراف النصر لعساكره".

في 21 فيفري الماضي زار رئيس الدولة مكتبة الديوان ضمن جولته في عدد من المنشآت الثقافية بمدينة تونس ليقرر الإسراع بصيانة وترميم هذا المعلم وهو ما قامت به محافظة مدينة تونس التابعة للمعهد الوطني للتراث والتي أصدرت في 3 سبتمبر الماضي بلاغا أوضحت فيه أن مصالحها "أنهت إنجاز كل أشغال الترميم والصيانة بالمعلم التاريخي "مكتبة الديوان" الكائنة بنهج الديوان، مدينة تونس العتيقة، والتي انطلقت منذ بداية شهر مارس 2024، حيث تم التدخل على كل الأجزاء والفضاءات المكونة للمعلم مع الحفاظ على أصالة المعلم بكل خصوصياته المعمارية والتراثية التي تميزه بالاعتماد على فريق من المختصين في مجال ترميم المباني التراثية بمحافظة مدينة تونس وذلك باستعمال تقنيات بناء تقليدية ومواد بناء طبيعية تتجانس وتتطابق مع الخصوصيات المعمارية والفنية للمعلم وحسب المعايير الدولية المعتمدة. وسيقع إعادة فتح المكتبة للعموم حين الانتهاء من انجاز قسط الكهرباء والحماية من الحرائق من قبل مصالح وكالة احياء التراث والتنمية الثقافية".

في الوقت الحالي انتقلت مكتبة الديوان إلى قشلة العطارين الفضاء القديم للمكتبة الوطنية فهل سيبقى الديوان مكتبة عمومية أم سيستغل في موضوع آخر؟

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال