عريقة هي جرجيس وعميقة الجذور ، فهي نوميدية الأصل
، فينيقية المجد ...رومانية الازدهار ثم وندالية وبيزنطية ، فعربية الروح والهوى ...هي
كل ذلك وهي بالأساس زيتا الجميلة المذكورة في النصوص القديمة.
في مدونات الجغرافيين الأوائل إشارات إلى استقرار
الفنيقيين على سواحل إفريقيا الشمالية من أوتيكا إلى أقصى شرق ليبيا إلا أن
ما يهمنا هنا هو منطقتي سرت الصغرى كما ذكرت عند سترابون strabon (تبدأ من
قابس) وسرت الكبرى (مصراطة إلى بنغازي) والتي
دأب المؤرخون ، كما يشير إلى ذلك علي درين " على تسميتها بـ"الأمبوريا" les emporia وهي كلمة فينيقية تعني الأسواق أو المصارف التجارية أو
المناطق الخصبة وتشمل زيادة على بعض الموانئ والمدن الساحلية جزءا من الأراضي
الداخلية المطابقة لسهل الجفارة الحالي.
تتميز منطقة الامبوريا قديما بأهمية موقعها الجغرافي وبثرائها ذلك أن هذا
الموقع يمكنها من مراقبة القوافل الصحراوية القادمة من إفريقيا السوداء وواحات
غدامس والمتجهة شرقا نحو الموانئ المحدثة على طول الشريط الساحلي والتي استغلتها
قرطاجة كمصدر تموين .
وقد عرفت منطقة الجنوب الشرقي التونسي في العهد الفينيقي بكونها نقطة عبور
والتقاء الطرقات والمسالك الآتية من الشمال والقاصدة الجنوب نحو صبراطة ومصر
والشرق عموما ، وكان يتم فيها إنتاج الزيت والخمور واستغلال منتوجات البحر كالسمك
المجفف والملح واستخراج الصباغة من صدف الأرجوان وهي صناعة اشتهر بها وأتقنها
الفينيقيون قديما ".
ربما حظيت بعض المدن البونية بشهرة
أكبر بكثير من زيتا نظرا لمواقعها الاستراتيجية وثرائها وكثافتها العمرانية على
غرار جكتيس Gigthi التي شيدت على ضفاف بحر
بوغرارة . لا شك أيضا أن جكتيس ستكون نقطة الاشعاع البحري في هذا المسطح المائي
الضخم اللامتناهي والواصل إلى وسط السواحل الليبية لكن المدينة ستتكامل من دون شك
مع جارتها زيتا / زيطا zita/ zitha
غير المحظوظة في نصوص الجغرافيين الأوائل فزيتا / زيطا لم يرد ذكرها إلا لماما في
كتابات بتولومي Ptolémée وهو يتحدث عن zeitha
acra أو في خط سير الإمبراطور أنطونيوس itinéraire
d’Antonin
عندما يذكر Ponte Zita municipium أو في خريطة بتنغير التي تذكر زيزا zizaوكذلك في
كوسموغرافيا رافين التي تشير إلى zita
ولاحقا في كتابات بروكوب procope
.
من جكتيس البونية لم يكشف إلا عن القليل فآثارها مازالت مدفونة أو هي
اندثرت أما جكتيس الرومانية فهي ستعرف أوج
إزدهارها خلال القرنين الثاني والثالث للميلاد ، تدل على هذا المعالم التي تم
تشييدها وهي الفوروم والكابيتول والحمّامات والسوق والطرقات والميناء الذي سيتحول
إلى عقدة تجارية مفتوحة على الصحراء والمرافئ المتوسطية ، سوف تحمل منها المراكب
زيت الزيتون والمنتجات الفلاحية والبحرية...لكن ماذا عن زيتا العريقة؟
إن زيتا هي هوية جرجيس التاريخية التي لا يمكن الفكاك منها أو نكران وجود سكانها الأصليين النوميديين الذين عاشوا في هذه
البقعة قبل أن تطأها أقدام الفنيقيين والرومان والبيزنطيين وغيرهم وهم لم يستسلموا
إلا بعد هزيمة قائدهم الثائر تاكفاريناس .
تقع زيتا حاليا في هنشير زيان على
بعد 9 كيلومترات غرب جرجيس وفي مرتفع كبير (79 م عن سطح البحر) وهي لم تكن في
الواقع أقل أهمية من جارتها جكتيس فخلال القرن الثاني على الأقل كانت مدينة / بلدية رومانية مزدهرة تحظى
باستقلالية كبيرة municipe وكانت حلقة الوصل مع جربة وهو ما يفسر تلك التسمية الواردة في وثائق
رافين Ponte Zita والتي تشير إلى القنطرة الرابطة بين جرجيس وجربة وكأن هذه الملاحظة
تعني أن زيتا هي أكبر بكثير من هنشير زيان الذي تتمركز به أبرز المعالم التاريخية.
وأما إسم زيتا فمن المرجح أنه إسم بونيقي مستمد من الكلمة الفنيقية zt التي تعني زيت الزيتون كما
يشير إلى ذلك جرزي كوليندو Jerzy
Kolendo في دراسته عن "زيتا المدينة المنسية Zita,
une ville oubliée de Tripolitaine فهل هي محض مصادفة أن جرجيس
اليوم وزيتا الأمس تحتوي على أكبر غابات
الزيتون في تونس؟
وهل من مشكك في أن مدينة زيتا هي بالأساس مدينة بونيقية ارتبطت بوجود الفينيقيين
الذي يرجع إلى عدة قرون قبل الميلاد تدل على ذلك الآثار التي عثر عليها في هنشير
زيان نفسه وغيره من المواقع؟
تمسح آثار زيتا / zita نحو 40 هكتارا وما تم إكتشافه منها ليس إلا
القليل في ما يبدو فتحت الأرض أسرار أخرى سوف تظهر تباعا بقي أن ما دونته كراسات
الرحالة الأوروبيين أو استخرجته حفريات الأركيولوجيين يعكس المكانة المهمة لهذه
المدينة في أغلب المراحل التاريخية بما في ذلك الفترة البونية غير المعروفة بدقة
لكن علي درين يخبرنا في دراسته أن "الاهتمام بآثار زيان بدأ منذ منتصف القرن
19 فقد زارها الرحالة الألماني بارت في 30 مارس 1846 ووصف معالمها بدقة كما زارها فيكتور
قيران في 16 مارس 1860 وسماها مدينة زيان وفي سنة 1903 قام الضابط تريبالي بحفريات
تمكن على إثرها من العثور على نقيشة ترجع إلى الفترة البونية الحديثة...".
الاكتشافات سوف تتوالى ومن أهمها العثور سنة 1988 على 185 قطعة بونية تضاف
إلى عديد القطع الأخرى المتمثلة في دنان وصحون ومصابيح وأما آثار الحقبة الرومانية
فلعل أبرز ما اكتشف منها هو الفوروم أو الساحة العامة le forum وقد تم ذلك سنة 1884 بفضل
حفريات ريناك وبابلون ويوضح درين أنه "بالإعتماد على ما كتبه هذان المؤرخان
فإن ساحة زيتا مستطيلة الشكل ذات أرضية مبلطة تحيط بها أروقة من ثلاث جهات".
جدير بالذكر أيضا أنه في نطاق تهيئة الساحة العمومية الفوروم والكابيتول
تمكن فريق من المعهد الوطني للتراث في ديسمبر 2022 من "إبراز أجزاء هامة من
مدخل الكابيتول على غرار المدارج إلى جانب العثور على أرضية الساحة المبلطة من
الحجر الكلسي وقد كانت هذه المعالم مغطاة بالأتربة والنباتات العديدة ومكنت عمليات
التهيئة كذلك من اكتشاف أجزاء من العناصر المعمارية التي كانت تزين هذا المعلم مثل
الأعمدة وتيجان الأعمدة من النوع الأيوني و الكورنتي".
تحيلنا هذه الحفريات على المكانة المهمة لزيتا خلال الفترة الرومانية وهي
لن تتجلى إلا بعد القضاء على ثورة تاكفاريناس فبعدها سوف يبدأ بناء الفوروم لتكتمل
أشغاله بعد 16 سنة (من 42 إلى 58 م ) وحوله سوف تشيد مبان أخرى أساسية في حياة
المدينة السياسية والاجتماعية والإدارية وسوف يبرز أيضا الثراء الكبير للسكان وهو
على الأرجح نتاج تصدير الخمور وزيت الزيتون المستخرج على عين المكان والسمك المجفف
والملح وبظهور المدينة الرومانية كما يقول كوليندو ستختفي السمات البونية تماما
وتصبح زيتا مدينة ذات طابع روماني خالص ومركزا تجاريا نشطا سيزداد ازدهارا على
امتداد القرن الأول تماما كجارتها جكتيس.
لن تكون زيتا الرومانية محصورة في حدود هنشير زيان فهي ستتوسع إلى جوارها
وسيتم العثور على العديد من المعالم والآثار كما يشير إلى ذلك درين ولئن لم يتم
الكشف عن الكابيتول الذي أمر حاكم زيتا ببنائه في شماخ فإن الباحثين سيعثرون في
المنطقة على أثاث جنائزي ومجموعات فخارية وبقايا أفران وآثار معصرة لزيت
الزيتون أما في مدينة جرجيس نفسها فقد اندثرت البنايات الضخمة التي كانت على
الساحل حيث بنى المستعمر الفرنسي على أنقاضها مبانيه الإدارية ومن ثمة فلم يعثر
إلا على بعض أحواض تمليح الأسماك وعلى جرار الفخار ، فيما المفاجأة السارة ستبرز
في مكان آخر " ففي منطقة سيدي بوتفاحة جنوب جرجيس عثر العقيد دوبراي على
ميناء جرجيس Gergis الذي استعمله الرومان في
تصدير الزيوت حسب اعتقاده وفي منطقة حمادي عثر عن طريق الصدفة في سبتمبر 1935 على
جرة تحتوي على 1235 قطعة نقدية من البرنز مؤرخة في القرن الثالث ميلادي وجزء من
النقود محفوظ بمتحف جرجيس".
معالم زيتا الرومانية سوف تسجل حضورها في قلب بحيرة البيبان ففي هذا المكان
تم بناء البرج العسكري لمراقبة حركة الملاحة وحراسة قوافل الملح وهذا المعلم ستكون
له الوظيفة نفسها خلال فترات لاحقة.
يعرض حاليا جزء هام من آثار زيتا في متحف جرجيس يتضمن بعض القطع البونية
والعديد من القطع الرومانية فيما حمل المستكشفون والعسكريون الفرنسيون عدة قطع إلى
فرنسا وهي معروضة بمتحف اللوفر وأما آثار الفترة الوندالية فهي شبه منعدمة يفسر
ذلك الركود الاقتصادي الذي عرفته كافة المصارف التونسية في تلك الحقبة التاريخية.
الفترة البيزنطية لم تكن بدورها مزدهرة وفي هذا السياق يقول درين أن علماء
الآثار لم يتمكنوا "من إبراز إلا
البعض منها وقد عثر مرلان merlin
على بقايا الكنيسة المسيحية بهنشير زيان وخلال عملية المسح الأثري التي قمت بها
(درين) عثرت على عدد من النقود البيزنطية بالناعورة وشماخ وزيان وعلى نقيشة باللغة
الاغريقية بالمداينة جنوب شرق بحيرة البيبان وتتعلق بمعلومات عن الطقوس الدينية
المسيحية خلال الفترة البيزنطية".
في مقالنا المقبل سوف نتعرض إلى جوانب أخرى من قصة مدينة جرجيس عبر تاريخها
الطويل.