قصور ومدارس وفنادق...معالم المدينة بين الإنقاذ والضياع (2) ميضاة السلطان



كنوزنا – ياسين بن سعد

بدأنا منذ أيام بنشر سلسلة من المقالات حول المعالم التاريخية بمدينة تونس ما هو مهمل منها أو هو بصدد التثمين والإصلاح وكنا اخترنا قصدا الانطلاق من قائمة المعالم التي جرى أو يجري إنقاذها وكان مقالنا الأول حول جامع الموحدين المعروف بجامع القصبة وأما في مقالنا هذا فنتحدث عن معلم مهم جدا موجود بقلب المدينة العتيقة هو ميضاة السلطان التي تعود إلى العهد الحفصي.

وميضاة السلطان هي من مآثر أحد أبرز سلاطين بني حفص بعد السلطان أبو فارس عبد العزيز ونعني السلطان أبو عمرو عثمان الذي تولى الحكم خلفا لأخيه المتوفى بعد عام واحد من حكمه وكان عمر  السلطان عثمان حين أمسك بالسلطة 17 عاما و5 أشهر تقريبا ويذكر الزركشي أن "أمه هي أم ولد علجية (أوروبية) إسمها ريم ...ولد في السابع والعشرين من رمضان سنة إحدى وعشرين وثمانمائة 821 هـ ...وبويع بتونس على رضى الخاصة والعامة صبيحة يوم الجمعة الثاني عشر من صفر عام تسعة وثلاثين وثمانمائة 839 هـ ".

وقد امتدح مؤرخو الدولة الحفصية وغيرهم من المؤرخين مناقب هذا السلطان فابن الشماع يصفه بـ " مولانا رفيع الشأن أمير المؤمنين ذو المآثر السنية والأحوال المرضية" وابن أبي دينار يقول أنه "أجلّ ملوك بني حفص وهو ختامهم طالت مدته وفعل خيرات يكتب ثوابها في صحيفته " ومقديش يوضح في نزهة الأنظار بأنه "كان قائما على طريقة جده سائرا في ظل سطوته وكان عالما فاضلا مشهورا طالت مدته حتى أربت على مدة جده" وأما روبار برنشفيك صاحب المؤلف الضخم عن الدولة الحفصية فقد حاول رسم صورة أكثر شمولا حول هذا السلطان سواء من حيث شخصيته ومواقفه السياسية وتعامله مع بعض الاضطرابات التي طبعت فترة حكمه وانجازاته الديبلوماسية والعسكرية أو الحضارية وهو سيختصر ذلك في مقدمة تعريفه لأبي عمرو عثمان بالقول أنه "قد أقام الدليل بصفة ساطعة بالرغم من صغر سنه على إخلاصه لشقيقه (حين حاصره الأعراب) وعلى ما يتمتع به من خصال حربية ...وسيواصل عمل جده الذائع الصيت أبي فارس أو بالأحرى سيحافظ عليه وسيمكث على العرش أكثر من نصف قرن وعلى وجه التحديد مدة 53 سنة".

وصف آخر دقيق للسلطان عثمان وهو في الخمسينات من عمره أورده الرحالة البلجيكي أدورن وهو كما يظهر "طويل القامة قليل الكلام ، معتدل ، على غاية من الورع ، عادل ، يعطف على الجميع، ويحظى بمحبة شعبه وهو أعظم وأقدر وأثرى ملك من الملوك المغاربة".

إن طول مدة حكم السلطان أبي عمر عثمان تؤكد بما لا يدع مجالا للشك نجاحه في فرض نوع من الاستقرار في مملكته والقيام بأشياء كثيرة وطدت حكمه ولعل الاهتمام بالدين والتعليم والجيش والتجارة من الأمور التي يعتد بها وليست الميضاة التي بناها على بعد أمتار قليلة من جامع الزيتونة إلا جزءا يسيرا من إنجازاته التي عدّدها المؤرخون فابن الشماع يشير إلى أن من مآثر هذا السلطان  تكملته بناء مدرسة المنتصرية  بسوق الفلقة (نهج الوصفان) التي شرع في بنائها شقيقه أبو عبد الله المنتصر وإخراجه لخزانة الكتب التي بقصره والمشتملة على أمهات الدواوين ويبدو أن هذه المكتبة قد تلاشت عندما احتل الاسبان تونس سنة 1535 م.

ومن ناحيته يؤكد الزركشي أن من حسنات أبي عمرو عثمان " بناؤه للمدرسة والزاوية تحتها بالدار المعروفة  بدار صولة جوار دار الشيخ الصالح سيدي محرز بن خلف والسقّاية بازائها ...ومنها بناؤه للميضاة الضخمة التي بدرب ابن عبد السلام جوفي جامع الزيتونة وأمر بتسخين الماء فيها في زمن الشتاء ومنها بناؤه للسبالة شرقي صومعة جامع القصبة ومنها بناؤه للمصاصة شرقي جامع الزيتونة يشرب منها العطاش من جعاب نحاس ... ومنها أمره بالسبيل قرب المارستان ينتفع به من بجواره لقلة الماء هنالك ومنها بناؤه للساقية بازاء باب الجبيلة وجلب الماء لذلك من أم الوطا خارج تونس ومنها بناؤه لزاوية الفندق وكذلك بناؤه للزاوية المعروفة بعين الزميت بين مدينة تونس وباجة وزاوية أبي الحداد وزاوية المنيهلة وزاوية قرناطة بالمكان المعروف بين قفصة وتوز وزاوية بسكرة وزاوية التومي وغير ذلك ".

لم يكن بناء الميضاة منفصلا عن طبيعة الحياة في تلك الفترة إذن فالماء كان لندرته يكتسي قيمة كبيرة ما يفسر إهتمام الحفصيين بتشييد الأسبلة وجلب المياه إلى العاصمة من زغوان وحفر الآبار وبالإضافة إلى ذلك فإن إستقرار الحكم كان يلزم الحاكم بأن يصون المعالم الدينية وعلى رأسها جامع الزيتونة باعتباره مع جامع عقبة المنارة الأكثر تمثيلا لمذهب أهل البلد وهكذا فقد أمر السلطان في 1448 م المهندس محمد القسنطيني ببناء الميضاة وجلب الماء الساخن إليها لتنتهي الأشغال في 1450 م ويقوم هو شخصيا في يوم الاثنين ثامن رجب بافتتاحها علما بأنها تقع في درب بن عبد السلام نسبة إلى الامام وقاضي الجماعة بن عبد السلام وهذا الدرب يعرف اليوم بزنقة العطارين وفيه معالم أخرى أبرزها الخلدونية والمدرستان العصفورية والحمزية وفندق قديم في حالة اندثار.

أصبحت ميضاة السلطان أبي عمرو عثمان معلما أثريا محميا بتاريخ 25 جانفي 1922 لكن هذا المعلم البديع مر طيلة تاريخه بحالات من الإهمال وكاد يتلاشى رغم ترميمه مرتين واحدة خلال القرن 17 وأخرى سنة 1960 وقد ظل المعلم خلال السنوات الأخيرة مغلقا قبل أن تبدأ محافظة مدينة تونس مؤخرا في صيانته على أمل أن يفتح ويدمج ضمن المسلك السياحي الثقافي فالميضاة هي أحد أجمل المعالم الحفصية في مدينة تونس القديمة.

في موقع "قنطرة" يقدم محمد القسنطيني وصفا دقيقا جدا لهذا المعلم العتيق الذي يتركب من " صحن فضاؤه مفتوح ومحاط بثلاثة أروقة ذات قوس واحد مكسور ومتجاوز يستند على أعمدة ذات تيجان حفصية ومغربية - أندلسية. تحتضن هذه الأروقة الصغيرة عدة أحواض ضيقة ومقاعد حجرية. ويتوسط الصحن بناء صغير مثمن الشكل ذو واجهات مزينة بالرخام المنقوش بقويسات مختلفة في حين تصب فوهات النافورات الثمانية المتواجدة بكل واجهة، الماء في أحواض معزولة.

ويغطي الرخام الأبيض أغلب الأجزاء السفلية للجدران بينما تزين الأجزاء العلوية زخارف غنية ... ويحتل "الكذال" وهو حجر جيري في بعض الأماكن، الواجهات عوض الرخام، وذلك مند آخر عملية ترميم عرفها المبنى".

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال