قصور ومدارس وفنادق وأسبلة مائية معالم المدينة بين الإنقاذ والضياع (1)

 



كنوزنا – كتب ياسين بن سعد

3 سنوات تقريبا (2021) مرت على سلسلة المقالات التي نشرت لنا في "الشروق" تحت عنوان : "المعالم المهملة : ظلال الشك ...الذاكرة المنسية" وفيها جرد لواقع بعض الكنوز التاريخية ومنها قصور ومدارس وفنادق وأسبلة مائية فهل تغير الحال بعد هذه المدة الطويلة ؟

في الحقيقة مازالت الحيرة تنتابنا كلما مررنا بأنهج المدينة وتوقفنا أمام بعض المعالم فالوضع لم يتغير كثيرا ولولا الزيارت الرئاسية لعدد من هذه الكنوز الحضارية التي لا تقدر بثمن لما أمكن إنقاذها ولقلنا أن الوضع يزداد سوءا وتدهورا.

في الأثناء نشرالمعهد الوطني للتراث بلاغا يؤكد فيه"حجز عدد هام من المربعات الخزفية وأعمدة وأقواس رخامية ومخطوطات ذات قيمة تاريخية بمنزل في المدينة العتيقة بتونس" ما يعني أن هناك بداية تحرك حكومي لإيقاف نزيف النهب والإعتداء على المخزون الحضاري للمدينة وربما هذا ما حفزنا للخوض مجددا في ملف المعالم المهملة والتي يمكن تثمينها بسهولة سواء من قبل الدولة التونسية نفسها أو بالشراكة مع القطاع الخاص مثلما حصل في مسبح البلفدير الذي أعيد فتحه للعموم بعد تهيئته بمبلغ يناهز الـ 18 مليارا.

لكن وقبل التعرض إلى قائمة المعالم المنسية دعونا نلقي نظرة على تلك التي استعادت ألقها وخرجت من دائرة الخطر أو التي هي بصدد التعافي والخضوع إلى عملية ترميم وربما كان جامع القصبة أبرز معلم يستعيد وظيفته الأصلية بعد إغلاقه في 2011 ليستمر هذا الوضع حتى زيارة الرئيس قيس سعيد في 26 فيفري 2024 ومعاينته لحالة الإهمال التي كان عليها ثم تسند مهمة الترميم للهندسة العسكرية ويتم افتتاحه رسميا فجر 7 جويلية 2024.

وجامع القصبة هو أحد أقدم وأجمل جوامع الحاضرة التونسية إذ يعود إنشاؤه إلى عهد أبي زكرياء الأول مؤسس الدولة الحفصية وعنه يقول بن الخوجة "خطبته هي الثانية في سلسلة جوامع الخطبة بتونس ...والإسم المشهور به هذا الجامع بين الناس هو جامع القصبة لأن موقعه بقلبها وكانوا في المئة السابعة يسمونه جامع الموحدين نسبة لسلف مؤسّسه وأطلقوا عليه في هذا الزمان إسم الجامع الحفصي في الأوساط العلمية من يوم جعله فرعا مدرسيا لجامع الزيتونة سنة 1351 هـ ...شرع مؤسسه في بنائه سنة 629 هـ 1231 م وفي السنة بعدها ابتدأ في بناء صومعته البديعة ومازالت لهذا الزمان أجمل وأفخم وأبهى صوامع تونس بلا استثناء بناها صاحبها بشكل صوامع الأندلس والمغرب ولها شبه من قريب بصومعة جامع الكتبية بمراكش".

اكتملت عمارة الجامع في 633 هـ 1235 م  ويؤكد الوزير السراج في "الحلل السندسية" أن أبا  زكرياء أقام فيه الأذان لصلاة الصبح يوم الجمعة سابع شهر رمضان من تلك السنة بينما يشير الزركشي إلى أن السلطان صعد للأذان لأول مرة في منارة المسجد لما انتهى بناؤها في رمضان من سنة 630 هـ وأما البنّاء الذي قام بالإشراف على تشييد هذا الصرح الجميل فيدعى محمد بن قاسم عريف.

يرجع الفضل للحفصيين الأوائل إذن في إعطاء جامع القصبة معمارا بديعا يباهي الجوامع الأخرى في مدينة تونس ورغم احتفاظ جامع الزيتونة بمكانته الرائدة فإن سلاطين بني حفص كانوا يقصدون جامع مؤسس دولتهم للصلاة وإقامة بعض المناسبات الدينية.

 يذكر روبار برونشفيك أن أبا زكرياء كان " يحضر عادة صلاة الجمعة بجامع القصبة بدون أن يتولى الإمامة...وكان يقصد الجامع مترجلا ويشق رحبة قصره ما بين خواص من المماليك الأتراك ثم يتقدمه وزير الجند بين يديه في ساباط يخرج من هناك للجامع عليه باب مذهّب سلطاني والوزير لا يخرج معه من هذا الباب بل يسبق لفتح الباب ويخرج السلطان منه وحده ويقوم له جماعة الوقّافين من أعيان الدولة ويقوم له في الجامع غيرهم وليس له مقصورة مخصصة".

وإلى ذلك يضيف الدكتور أحمد الطويلي في مؤلفه "مراكز الثقافة والتعليم بمدينة تونس في العهد الحفصي" أن السلطان أبا زكريا خص هذا الجامع بعلية القوم من الموحّدين وبأبرز العلماء والأدباء الذين استدعاهم من إفريقية والأندلس وكانت تقام في الجامع دروس خاصة بالمذهب الموحدي وتنظم فيه مسابقات أدبية.

 كان جامع القصبة في البداية جامعا ملكيّا موحديا إذن خاصا بالسلطان وحاشيته من أعيان الدولة الحفصية ورغم الصبغة الموحدية التي طبعت الطبقة الحاكمة فإن المذهب المالكي سوف يسترجع بريقه وحضوره بشكل كامل منذ بدايات القرن الرابع عشر ويصبح الجامع تابعا تماما لمذهب أهل تونس وهو لم يصبح جامعا حنفيا بالطبع إلا عندما دخل العثمانيون إلى الحاضرة في أواخر القرن السادس عشر وعن هذا التحول يقول الشيخ بيرم الرابع :" لما حدث المذهب الحنفي بتونس باستقرار الدولة التركية واتخذت القصبة دار ملك اقتداء بالملوك الحفصيين اقتضى حالهم أي الترك أن رتبوا بجامعهم الذي هو محل عبادتهم وإقامة صلاتهم أيمة من أهل مذهبهم ... ولكونه جامعا ملوكيا ثبتت له مزية استفادة الأوقات منه ليلا ونهارا ، والذي يظن ظنا قريبا أن تحويله إلى الحنفية بعد الفتح العثماني بقريب من اثنتي عشرة سنة والموجب لهذا الظن أن منبره الموجود الآن مكتوب عليه تاريخ وضعه وهو 992 هـ /1684 م".

في هذا التاريخ كما يتضح تمت الاستعاضة عن المنبر الخشبي الذي كان موجودا (كما هو الحال في جميع الجوامع المالكية) ، بمنبر من الرخام على غرار المساجد الحنفية وأضيف المحفل أو الدكة الخشبية التي يعتليها المؤذنون وقد استمر الأتراك في توظيف جامع القصبة حتى ابتدائهم ببناء الجوامع الخاصة بهم ويعتبر جامع يوسف داي بسوق البشامقية والكائن على مسافة قريبة الحبة الأولى في عقد الجوامع الحنفية وهذا الجامع قد أصبحت له خطبة خاصة به ما جعل أتراك تونس يتجهون للصلاة في جوامعهم التي بناها أمراؤهم تباعا.

تولى الإمامة والخطابة في جامع القصبة عدد من الشيوخ من أبرزهم محمد برناز ومصطفى الإزميري ومحمد البيك وعبد الكريم الحنفي وباكير التركي ومحمد الدهماني وعبد الكريم قورصو ومحمد زبدة وحسونة التركي وغيرهم.

وجامع القصبة لا يختص فقط بما ذكرناه آنفا من عراقة التاريخ وجمال العمارة وكونه جامعا للطبقة الحاكمة في الدولتين الحفصية والتركية فهو يتميز أيضا بالعلم الأبيض الذي يرفرف أعلاه وقد فصل محمد بن الخوجة قصته قائلا أن هذا العلم " ينشر من صومعة الجامع تنبيها لمؤذني بقية الجوامع بدخول وقت الصلاة واختصاص هذا الجامع بنشر ذلك العلم له سببان فيما يظهر فأولا لتلبّسه بالصبغة الملكية وثانيا لارتفاع موقعه الذي هو أعلى بقعة بمدينة تونس فكان هو المتعين لاستدعاء المؤذنين للنطق بحي على الصلاة ويكون ذلك بنشر علم أبيض وهو شعار الدولة العباسية بعد إبطالها للسواد ، وللأذان بصومعة القصبة موقتون من ثقات المسلمين ...وهذه الخطة صارت عن جدارة واستحقاق وقفا على آل بيت الفياش من بيوت المجد بتونس".

لا شك أن الهندسة البديعة لهذا الجامع تتجلى بالخصوص في منارته التي تهيمن على المشهد العام في ساحة القصبة وجواره وبهما قصر الحكومة ومؤسسات الدولة وهذه المنارة  ذات الطابع الأندلسي الأصيل كما يقول الباجي بن مامي " تبقى العنصر الأكثر أهمية بشكل لا يقبل الجدل فقد استوحت زخرفتها من التقسيمات الأساسية لمئذنة القصبة في مراكش، التي تتقدمها بخمسين عاماً وتمددت هذه الزخرفة المنفذة من الحجر وليس من الآجر كما في النموذج المغربي بعقود مفصصة تبدأ من الأسفل وتمتد و تتشابك فيما بينها مشكلة شبكة من التشبيكات المعينية المتنوعة الألوان، والبارزة على خلفية من الحجر الأمغر، لتنتشر على الواجهات الأربع للمنارة المربع وتزين نقيشة كتابية تؤرخ للمعلمة معينين اثنين على الواجهة الشرقية للبرج".

اختزلت المنارة كل الإبداع المعماري فيما تبدو بيت الصلاة أقرب إلى البساطة وإن ارتكزت على أعمدة رخامية ذات تيجان حفصية كما هو الحال في أغلب المعالم المرتبطة بزمن الحفصيين ولعل ما يميزها عن غيرها كما يشير إلى ذلك بن مامي هو أنها " تتخذ تصميمًا أكثر عمقا منها عرضًا خلافا للنماذج السائدة في المساجد الإفريقية التونسية وقد قسمت هذه القاعة إلى سبع بلاطات وتسعة أساكيب... ويتكون السقف من قبوات متعامدة تفصل بينها أقواس على شكل حدوة حصان".

في المقالات المقبلة سوف نهتم ببعض المعالم الأخرى التي تم إنقاذها أو هي بصدد الترميم كما سنتعرض إلى المعالم المنسية.

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال