سوق البلاط ...تاريخ عريق و3600 عشبة


اختلف المؤرخون حول جذور سوق البلاط إذ لا أحد يعلم تاريخ إنشائها وربما كان المؤرخ الفرنسي "جاك ريفو" الأقرب إلى تقديم معنى مناسب لتسميتها ووظيفتها فهو يذكر أن هذا المكان كانت تباع به قوالب الحجارة التي تستعمل في تبليط ساحات البيوت والمدارس والمساجد وهي من صنفين (بلاط كذّال وبلاط مالطي) أما الباجي بن مامي فيقول في دراسته عن الأسواق : " يبدو أن إسم هذه السوق يعود إلى الفترة الأغلبية (القرن 3 هـ / 9 م) وهنالك من يرى أنها اتخذت هذا الإسم خلال حكم بني خراسان أي في أول القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي ...وهي منسوبة إلى البلاط الذي فرشت به السوق لكن يرى الأستاذ مصطفى سليمان زبيس أن كلمة بلاط ربما هي توحي بقرب بلاط (القصر / مكان الحكم) دولة بني خراسان من هذا المكان".

رغم تعدد التأويلات فإن ثمة أمرا مؤكدا وهو أن سوق البلاط لم يكن يوما بعيدا عن تجارة الأعشاب الطبية والعطرية فدكاكينه الصغيرة عبقت منذ العصر الوسيط بروائح الزهور والنباتات الجبلية التي كانت تباع للعطارين رغم أن تجارة الزهور ارتبطت تاريخيا بسوق الطيّبين التي تحولت خلال الفترة العثمانية إلى سوق الكتبيّة . المؤكد أيضا أن السوق كانت مركزا للنجّارين وتجّار الموبيليا ، وللقصّابين وباعة الأسماك ولاحقا لمحلات الأكلات السريعة والملابس ، دون أن تكون مختصة في حرفة بعينها أو بيع منتوج محدد كالأسواق الأخرى القريبة من الجامع الأعظم والتي أسّس أغلبها أبو زكريا الأول.

لعبت السوق دورا هاما خلال الفترة الحفصية "وكانت الأعشاب والأزهار تستورد للتقطير وصنع الأدوية وكان سوق البلاط مركزها الأساسي" ومع أن العلاقة مع العطارين لم تعد قائمة كما كانت من قبل فإن تجارة الأعشاب الطبية قد استمرت وانتعشت بشكل لافت خلال الأعوام الأخيرة واحتل من خلالها عدد من الدخلاء الذين لا يعرفون الشيء الكثير عن النباتات ، مكان العائلات العريقة التي اشتهرت بهذه المهنة منذ أواسط القرن الماضي ومن أبرزها عائلات سعادة والفيتوري وترجت وبحر.

حوالي ثلاثة آلاف وست مائة نبتة يتم تداولها في سوق البلاط والشائع منها إما هو مخصص لعلاج الأمراض المستعصية على الطب الحديث أو هو مستعمل في أعمال الشعوذة ولعل بعض الأعشاب قد اكتسب شهرة أكثر من غيره كالعلندة التي يقال أنها تداوي السرطان كما توجد أعشاب لعلاج مرض الكلى والغازات والاسهال (النوخة) ، بينما تداوي جذور شجرة عود الشر داء البوصفّير ويستعمل الخلنج ممزوجا بمكونات أخرى لعلاج البروستاتا وبالطبع لا يوجد داء في سوق البلاط إلا ويقول لك أصحاب المحلات أن لهم الدواء المناسب له رغم أن الثقافة الشعبية تملك جردا بأهم الأعشاب والبذور وما تعالجه ولا تحتاج إلى وصفات من الباعة ويمكن أن نذكر منها عود القرنفل والشيح والإكليل والزعتر والكلاتوس والمريمية والريحان والزنجبيل والقرفة وهي لعلاج السكري وضغط الدم والأمراض الفيروسية ، وعلى كل فنحن لسنا بصدد ما يروّجه سوق البلاط من أعشاب وما يهمنا هو تاريخ هذا الفضاء الذي أحاطت به أحياء المراديين والحسينيين والأندلسيين وقبلهم الخراسانيّون وطبعته شخصيات سياسية ودينية واستقرت به معالم أثرية هامة.

لعل "خلوية" أبي الحسن الشاذلي هي إحدى أبرز المعالم بسوق البلاط وهذه الخلوية التي كان يعتكف بها الولي الصالح لا تبعد كثيرا عن دار الباجي الواقعة بنهج الحكام والتي سكنها "سيدي بلحسن" مع أهله قبل أن يصبح له في المدينة أتباع تونسيون ومغاربة وأندلسيون وحتى من الأشراف أو الهنتاتيّين الموحّدين التابعين لقبيلة السلطان أبي زكريا الحفصي حتى ناهز عدد أصحابه البارزين كما يقول روبار برنشفيك ، الخمسين وليّا بينهم ماضي بن سلطان المسروقي والقطب علي القرجاني وسيدي علي الحطاب وحسن السيجومي ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء السيدة عائشة المنوبية.

في سوق البلاط تقع أيضا دار باش حامبة التي بناها محمد الرصاع  في بداية القرن السابع عشر ، وعائلة الرصاع  العريقة التي جاء جدها الأول حسن الرصاع الأنصاري من تلمسان خلال القرن 15 كان منها رجال دين كبار في جامع الزيتونة وهي قد باعت البيت للحاج مصطفى النقاش ثم اشتراه منه الحاج أحمد باش حامبة الذي قام أيضا بشراء دار بن بكير لانشاء هذا القصر الفخم الذي يعد من أجمل قصور المدينة والمصنف معلما أثريا منذ 21 جانفي الماضي . ويذكر أن الدار صارت في 1923 على ملك جمعية الراهبات الفرنسيسكان ومن بعدها مؤسسة أوريستيادي الإيطالية (2000).

 

في قلب السوق يقع أيضا معلم قديم جدا هو مسجد الاشبيلي الذي يرجح مصطفى سليمان زبيس أنه يعود إلى 380 هـ / 999 م أي أن عمره يفوق الألف سنة (1022)، وقد أضيفت إلى هذا الفضاء المستغل حاليا كمسجد للصلوات الخمس صومعة تشير النقيشة المثبّتة على جداره أنها قد بنيت خلال القرن الرابع عشر.

مسجد الاشبيلي هو حبّة في عقد الجوامع والمساجد العريقة المنتشرة في كافة أرجاء المدينة وخصوصا في هذه المنطقة القريبة جدا من الجامع الأعظم والتي بنيت فيها أيضا العديد من الحمامات ومنها حمام المطيهرة المهجور والذي يعد من معالم السوق.

 

 

 


Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

أحدث أقدم

نموذج الاتصال